الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وسلم .
أما بعد : فهذه بعض الفوائد من المجلد العاشر من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية المسمى بعلم السلوك ، وهذا المجلد يتضمن عددا من الرسائل منها : «التحفة العراقية في الأعمال القلبية » ، و«أمراض القلوب وشفاؤها» و «العبودية» و «وجواب عن دعوة ذي النون» و «الوصية الصغرى» و غيرها .
May 25th, 2006, 01:38 AM
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وسلم .أما بعد : فهذه بعض الفوائد من المجلد العاشر من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية المسمى بعلم السلوك ، وهذا المجلد يتضمن عددا من الرسائل منها : «التحفة العراقية في الأعمال القلبية » ، و«أمراض القلوب وشفاؤها» و «العبودية» و «وجواب عن دعوة ذي النون» و «الوصية الصغرى» و غيرها .
ص8: مَنْ كَانَ مَعَهُ إيمَانٌ حَقِيقِيٌّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ .
ص 45: وَالْمُؤْمِنُ إذَا فَعَلَ سَيِّئَةً فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ بِعَشَرَةِ أَسْبَابٍ :
أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ .
أَوْ يَسْتَغْفِرُ فَيُغْفَرُ لَهُ .
أَوْ يَعْمَلُ حَسَنَاتٍ تَمْحُوهَا فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ .
أَوْ يَدْعُو لَهُ إخْوَانُهُ الْمُؤْمِنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا .
أَوْ يَهْدُونَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ مَا يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ .
أَوْ يَشْفَعُ فِيهِ نَبِيُّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَوْ يَبْتَلِيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُ عَنْهُ .
أَوْ يَبْتَلِيهِ فِي الْبَرْزَخِ بِالصَّعْقَةِ فَيُكَفِّرُ بِهَا عَنْهُ .
أَوْ يَبْتَلِيهِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ مِنْ أَهْوَالِهَا بِمَا يُكَفِّرُ عَنْهُ .
أَوْ يَرْحَمُهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .
فَمَنْ أَخْطَأَتْهُ هَذِهِ الْعَشَرَةُ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ.
ص58: «... وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ : يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ » .
فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ تَعَارُضُ إرَادَتَيْنِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ عَبْدُهُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ ، وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ فَهُوَ يَكْرَهُهُ كَمَا قَالَ: وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَضَى بِالْمَوْتِ ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَمُوتَ فَسَمَّى ذَلِكَ تَرَدُّدًا ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ .
ص71: فَمِنْ عَلامَاتِ الْمَجَازِ صِحَّةُ إطْلاقِ نَفْيِهِ .
ص96 : فَالْقَلْبُ يَحْتَاجُ أَنْ يَتَرَبَّى فَيَنْمُو وَيَزِيدُ حَتَّى يَكْمُلَ وَيَصْلُحَ كَمَا يَحْتَاجُ الْبَدَنُ أَنْ يُرَبَّى بِالْأَغْذِيَةِ الْمُصْلِحَةِ لَهُ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ مَنْعِ مَا يَضُرُّهُ فَلَا يَنْمُو الْبَدَنُ إلَّا بِإِعْطَاءِ مَا يَنْفَعُهُ وَمَنْعِ مَا يَضُرُّهُ كَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَزْكُو فَيَنْمُو وَيَتِمُّ صَلَاحُهُ إلَّا بِحُصُولِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ لَا يَزْكُو إلَّا بِهَذَا . وَ " الصَّدَقَةُ " لَمَّا كَانَتْ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ صَارَ الْقَلْبُ يَزْكُو بِهَا وَزَكَاتُهُ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى طَهَارَتِهِ مِنْ الذَّنْبِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْفَوَاحِشِ يَزْكُو بِهَا الْقَلْبُ . وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمَعَاصِي فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ فِي الْبَدَنِ وَمِثْلُ الدَّغَلِ فِي الزَّرْعِ فَإِذَا اسْتَفْرَغَ الْبَدَنُ مِنْ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ كَاسْتِخْرَاجِ الدَّمِ الزَّائِدِ تَخَلَّصَتْ الْقُوَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَاسْتَرَاحَتْ فَيَنْمُو الْبَدَنُ وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إذَا تَابَ مِنْ الذُّنُوبِ كَانَ اسْتِفْرَاغًا مِنْ تَخْلِيطَاتِهِ حَيْثُ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَإِذَا تَابَ مِنْ الذُّنُوبِ تَخَلَّصَتْ قُوَّةُ الْقَلْبِ وَإِرَادَاتُهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاسْتَرَاحَ الْقَلْبُ مِنْ تِلْكَ الْحَوَادِثِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ . فَزَكَاةُ الْقَلْبِ بِحَيْثُ يَنْمُو وَيَكْمُلُ .
ص99: وَالْعَدْلُ الْمَحْضُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُتَعَذِّرٌ عِلْمًا وَعَمَلا وَلَكِنْ الأمْثَلُ فَالأمْثَلُ.
ص123: ... مَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَذَى وَالْمَصَائِبِ هُوَ بِاخْتِيَارِهِمْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي تَجْرِي بِدُونِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ مِنْ جِنْسِ حَبْسِ يُوسُفَ لَا مِنْ جِنْسِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَهَذَا أَشْرَفُ النَّوْعَيْنِ وَأَهْلُهَا أَعْظَمُ دَرَجَةً - وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ يُثَابُ عَلَى صَبْرِهِ وَرِضَاهُ وَتُكَفَّرُ عَنْهُ الذُّنُوبُ بِمَصَائِبِهِ - فَإِنَّ هَذَا أُصِيبَ وَأُوذِيَ بِاخْتِيَارِهِ طَاعَةً لِلَّهِ يُثَابُ عَلَى نَفْسِ الْمَصَائِبِ وَيُكْتَبُ لَهُ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ . قَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . بِخِلَافِ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَجْرِي بِلَا اخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالْمَرَضِ وَمَوْتِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ وَأَخْذِ اللُّصُوصِ مَالَهُ فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا يُثَابُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا لَا عَلَى نَفْسِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمُصِيبَةِ ؛ لَكِنَّ الْمُصِيبَةَ يُكَفَّرُ بِهَا خَطَايَاهُ فَإِنَّ الثَّوَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا .
ص124-125: الْحَسَد مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ النَّفْسِ وَهُوَ مَرَضٌ غَالِبٌ فَلَا يَخْلُصُ مِنْهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ وَلِهَذَا يُقَالُ : مَا خَلَا جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ لَكِنَّ اللَّئِيمَ يُبْدِيهِ وَالْكَرِيمَ يُخْفِيهِ .
وَقَدْ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أَيَحْسُدُ الْمُؤْمِنُ ؟
فَقَالَ: مَا أَنْسَاك إخْوَةَ يُوسُفَ لَا أَبَا لَك وَلَكِنْ عَمَهٌ فِي صَدْرِك فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّك مَا لَمْ تَعْدُ بِهِ يَدًا وَلِسَانًا .
فَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَسَدًا لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُ التَّقْوَى وَالصَّبْرَ . فَيَكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ دِينٌ لَا يَعْتَدُونَ عَلَى الْمَحْسُودِ فَلَا يُعِينُونَ مَنْ ظَلَمَهُ ، وَلَكِنَّهُمْ أَيْضًا لَا يَقُومُونَ بِمَا يَجِبُ مِنْ حَقِّهِ ، بَلْ إذَا ذَمَّهُ أَحَدٌ لَمْ يُوَافِقُوهُ عَلَى ذَمِّهِ ، وَلَا يَذْكُرُونَ مَحَامِدَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَدَحَهُ أَحَدٌ لَسَكَتُوا .
وَهَؤُلَاءِ مَدِينُونَ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ فِي حَقِّهِ مُفَرِّطُونَ فِي ذَلِكَ ؛ لَا مُعْتَدُونَ عَلَيْهِ ، وَجَزَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ يَبْخَسُونَ حُقُوقَهُمْ فَلَا يُنْصَفُونَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ ، وَلَا يُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ ، كَمَا لَمْ يَنْصُرُوا هَذَا الْمَحْسُودَ .
وَأَمَّا مَنْ اعْتَدَى بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ فَذَلِكَ يُعَاقَبُ .
وَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الظَّالِمِينَ نَفَعَهُ اللَّهُ بِتَقْوَاهُ ...
ص130: وَالنَّاسُ فِي الْعِشْقِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
قِيلَ: إنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ .
وَقِيلَ : مِنْ بَابِ التَّصَوُّرَاتِ وَأَنَّهُ فَسَادٌ فِي التَّخْيِيلِ حَيْثُ يَتَصَوَّرُ الْمَعْشُوقُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ .
قَالَ هَؤُلَاءِ : وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ اللَّهُ بِالْعِشْقِ وَلَا أَنَّهُ يَعْشَقُ ؛ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يُحْمَدُ مَنْ يَتَخَيَّلُ فِيهِ خَيَالًا فَاسِدًا .
وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُوصَفُ بِالْعِشْقِ فَإِنَّهُ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ ؛ وَاَللَّهُ يُحَبُّ وَيُحِبُّ ، وَرُوِيَ فِي أَثَرٍ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ يَعْشَقُنِي وَأَعْشَقُهُ } وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ .
وَالْجُمْهُورُ لَا يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ فِي حَقِّ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْعِشْقَ هُوَ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يَنْبَغِي ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَلَيْسَتْ تَنْتَهِي إلَى حَدٍّ لَا تَنْبَغِي مُجَاوَزَتُهُ .
قَالَ هَؤُلَاءِ : وَالْعِشْقُ مَذْمُومٌ مُطْلَقًا لَا يُمْدَحُ لَا فِي مَحَبَّةِ الْخَالِقِ وَلَا الْمَخْلُوقِ لِأَنَّهُ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَدِّ الْمَحْمُودِ وَ أَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَ " الْعِشْقِ " إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ فِي مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ لِامْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَحَبَّةٍ كَمَحَبَّةِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَطَنِ وَالْجَاهِ وَمَحَبَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ مَقْرُونٌ كَثِيرًا بِالْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ : إمَّا بِمَحَبَّةِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ صَبِيٍّ يَقْتَرِنُ بِهِ النَّظَرُ الْمُحَرَّمُ وَاللَّمْسُ الْمُحَرَّمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ .
ص133: إذَا اُبْتُلِيَ بِالْعِشْقِ وَعَفَّ وَصَبَرَ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى تَقْوَاهُ اللَّهَ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : { أَنَّ مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ وَكَتَمَ وَصَبَرَ ثُمَّ مَاتَ كَانَ شَهِيدًا } وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهَذَا .
لَكِنْ مِنْ الْمَعْلُومِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ إذَا عَفَّ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ نَظَرًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا ، وَكَتَمَ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ مُحَرَّمٌ : إمَّا شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ ، وَإِمَّا إظْهَارُ فَاحِشَةٍ ، وَإِمَّا نَوْعُ طَلَبٍ لِلْمَعْشُوقِ ، وَصَبْرٍ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، وَعَنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَعَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ أَلَمِ الْعِشْقِ كَمَا يَصْبِرُ الْمُصَابُ عَنْ أَلَمِ الْمُصِيبَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . ونحوه في 28/215.
ص134: وَالْإِنْسَانُ قَدْ يُبْغِضُ شَيْئًا فَيُبْغِضُ لِأَجْلِهِ أُمُورًا كَثِيرَةً بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ . وَكَذَلِكَ يُحِبُّ شَيْئًا فَيُحِبُّ لِأَجْلِهِ أُمُورًا كَثِيرَةً ؛ لِأَجْلِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ : أُحِبُّ لِحُبِّهَا السُّودَانَ حَتَّى * أُحِبُّ لِحُبِّهَا سُودَ الْكِلَابِ !
فَقَدْ أَحَبَّ سَوْدَاءَ ؛ فَأَحَبَّ جِنْسَ السَّوَادِ حَتَّى فِي الْكِلَابِ وَهَذَا كُلُّهُ مَرَضٌ فِي الْقَلْبِ فِي تَصَوُّرِهِ وَإِرَادَتِهِ .
ص135: وَأَمَّا امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فَكَانَتْ مُشْرِكَةً هِيَ وَقَوْمُهَا فَلِهَذَا اُبْتُلِيَتْ بِالْعِشْقِ وَمَا يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ أَحَدٌ إلَّا لِنَقْصِ تَوْحِيدِهِ وَإِيمَانِهِ وَإِلَّا فَالْقَلْبُ الْمُنِيبُ إلَى اللَّهِ الْخَائِفُ مِنْهُ فِيهِ صَارِفَانِ يَصْرِفَانِ عَنْ الْعِشْقِ :
أَحَدُهُمَا : إنَابَتُهُ إلَى اللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَلَذُّ وَأَطْيَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا تَبْقَى مَعَ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَحَبَّةُ مَخْلُوقٍ تُزَاحِمُهُ .
وَالثَّانِي : خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ الْخَوْفَ الْمُضَادَّ لِلْعِشْقِ يَصْرِفُهُ .
وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا بِعِشْقِ أَوْ غَيْرِ عِشْقٍ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ عَنْ مَحَبَّتِهِ بِمَحَبَّةِ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ إذَا كَانَ يُزَاحِمُهُ وَيَنْصَرِفُ عَنْ مَحَبَّتِهِ بِخَوْفِ حُصُولِ ضَرَرٍ يَكُونُ أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ ذَاكَ الْحُبِّ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَخْوَفَ عِنْدَهُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ عِشْقٌ ، وَلَا مُزَاحَمَةٌ إلَّا عِنْدَ غَفْلَةٍ ، أَوْ عِنْدَ ضَعْفِ هَذَا الْحُبِّ وَالْخَوْفِ بِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ ، فَكُلَّمَا فَعَلَ الْعَبْدُ الطَّاعَةَ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَخَوْفًا مِنْهُ وَتَرَكَ الْمَعْصِيَةَ حُبًّا لَهُ وَخَوْفًا مِنْهُ قَوِيَ حُبُّهُ لَهُ وَخَوْفُهُ مِنْهُ فَيُزِيلُ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ وَمَخَافَةِ غَيْرِهِ .
ودمتم لأخيكم,,,,